حق الوالدين
حدثنا قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف الثقفى وزهير بن حرب قالا: حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبى زرعة عن أبى هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من أحق الناس بحسن صحابتى؟ قال:”أمك“، قال: ثم من؟ قال:”أمك“، قال: ثم من؟ قال: ”أمك“، قال: ثم من؟ قال:”أبوك“1.
التخريج :
روى هذا الحديث مسلم فى كتاب البر والصلة والأدب، وله طرق كثيرة، وعنه عن أبى كريب قال: "من أحق الناس بحسن الصحبة". وكذا عن أبى بكر بن أبى شيبة، وزاد فى روايته، فقال: "وأبيك لتنبأن". وفى حديث وهيب: "من أبر". وفى حديث محمد بن طلحة: "أي الناس أحق منى بحسن الصحبة" ثم ذكر الحديث.
وروى أيضا الترمذي فى كتاب البر والصلة فى باب ما جاء فى بر الوالدين عن أبى بهز بن حكيم عن أبيه وعن جده2. وزاد "ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب"3.
وروى أبو داود عن بهز بن حكيم، وعن كليب بن منفعة عن جده أنه أتى النبي e فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: ”أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذى يلى، ذاك حق واجب ورحم موصولة“4.
وفى رواية لابن ماجه عن أبى هريرة قال: ”الأدنى الأدنى“. وله حديث آخر عن المقدام بن معديكرب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ”إن الله يوصيكم بامهاتكم ثلاثا، إن الله يوصيكم بأبائكم، وإن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب“5.
وأخرج الحاكم عن أبى رمثة قال: إنتهيت إلى رسول الله عليه وسلم فسمعته يقول: ”بر أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك“7.
التحليل اللفظي :
جاء رجل : وقال صاحب الفتح: يحتمل أنه معاوية ابن جيدة وهو جد بهز بن حكيم.
بحسن صحابتى : وفى رواية لمسلم "بحسن الصحبة"، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: ”أمك“، وهذا سبب ورود الحديث. وفى رواية: "من أبر يا رسول الله". وهو من البر وهو الإحسان، ومعناه: مراعاة الحقوق الواجبة على المرء والقيام بها على وجه المأمور8.
فقه الحديث :
لقد كان للشريعة الإسلامية الفضل الأكبر فى تهذيب الشر وتربيتهم وإنشائهم على اسمى المبادئ الإنسانية بما اشتملت عليه من قيم روحانية سامية وتعاليم أخلاقية مقدسة وتوجيهات كريمة سديدة، سواء منها ما يختص بالفرد والمجتمع. لقد كان الأولى بالمسلمين ان يتمسكوا بدينهم، ويسيروا على هدي الشريعة الإسلامية وأحكامها وتعليمها، ويتجلوا بالأخلاق الإسلامية الفاضلة ليكونوا مثلا على الإنسانية. ولكن البعض منهم للأسف الشديد، تجاهلوا أمور دينهم وتناسوا ما يحب عليهم، ويخافوا ما يأمرهم به ربهم ونبيهم من تعليمات سامية وتوجيهات حكيمات، وتفشى بينهم الكذب والنفاق وسوء الأخلاق.
كان لنا فى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والسلف الصالح والعلماء العاملين قدوة حسنة وصدق العقيدة والتمسك بالدين والتحلى بالصفات والأخلاق الإسلامية الحميدة والتضحية والجهاد فى سبيل الله والدعوة إلى الله والإخلاص والصدق وحسن المعاملة.
يبين لنا الحديث بجملة مختصرة وعبارة موجزة، رائعة المبني، عظيمة المعنى خير الدنيا وسعادة الآخرة. فالأم هي مصدر ومنبع وأصل كل فائز ونجاح وسلامة للإنسان. رضا الله فى رضا الوالدين وسخط الله فى سخط الوالدين.
وحكى عثمان الخوبرى حكاية نافعة: أن شيخا كان مشهورا بالفضل والكرم. فيوما قصد مكة، وله أم لم ترض أن يسافر إلى مكة، فلم يقتدر الشيخ على إرضائها ومشى إلى مكة، فجاءت أمه من خلفه، وقالت: "يا رب إن ابنى أحرقنى بنار الفرقة، سلط عليه عقابا"، وتضرعت وناجت. فلما بلغ الشيخ مدينة من المدائن، دخل مسجدا فى الليل للعبادة. فدخل لص فى بيت من البيوت، فعلم صاحب البيت أن فى البيت لصا، ففر اللص إلى جانب المسجد، فتعقبوه، فلما جاءوا إلى باب المسجد عاب اللص، فقالوا بل فى المسجد، فدخلوا فرأوا الشيخ قائما يصلى، ففى الحال أخذوه فأتوا به ملك المدينة، فأمر الملك بقطع يديه ورجليه وإخراج عينيه، فقطعوا يديه ورجليه وأخرجوا أيضا عينيه ونادوا فى السوق "هذا جزاء السارق". فقال الشيخ الفاضل: لا تقولوا ذلك، بل قولوا "هذا جزاء من قصد طواف مكة بلا إذن أمه. فلما رأوا أنه الشيخ، وعلموا بهذه الحالة بكوا وجزعوا، فأعادوا الشيخ إلى أمه ووضعوا على باب الصومعة، وفيها تنادى أمه وتقول: يا رب ابتليت ابنى ببلاء أعده إلي حتى أراه، فنادى الشيخ: أنا مسافر جائع فأطعمنى، فقالت: إئت الباب، فقال: مالى رجلين أمشى إليك، فقالت أمه: أمدد يديك، فقال: مالى يدين، فقالت أمه: إن أطعمتك تحصل بينى وبينك حرمة، فقال الشيخ: لا تخافى مالى عينين، فأخذت أمه رغيفا واحدا وماء باردا فقدمت إليه، فلما رأى الشيخ أمه وضع وجهه على قدميها، وقال: أنا ابنك العاصى. فعلمت أمه أنه ابنها وبكت، فقالت: يا رب إذا كانت الحالة كذلك فاقبض روحه وروحى حتى لا يرى الناس سواد وجهنا، فلم تتم المناجاة إلا وقد قبض روحهما.
وهل يستطيع علقمة أن يقرأ الشهادة فى وقت حضور الوفاة بعد طرده لأمه الكريمة؟ فالجواب لا. والعياذ بالله. وهذه القصة معروفة عند الجميع.
وفى الحديث الشريف "أمك ثلاثا ثم أباك" بالنصب، معناه: بر أمك. وكذالك "أباك" فى محل نصب مفعول به آى بر أباك. قدمت الأم على الأب لأنها أشد الوالدين مشقة. فانظر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ”إن الله حرم عليكم عقوق9 الأمهات“01. خصهن لأن عقوقهن أقبح أو إليهن أسرع أو لغير ذلك. فهو من تخصيص الشيء بالذكر إظهارا لعظم موقعه.
وفى الفتح يقال: وخص الأم بالأمور الثلاثة: الحمل ثم الوضع ثم الرضاع. قال القرطبى: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر. وقال عياض: وذهب الجمهور إلى ان الأم تفضل فى البر من الأب11. وسئل الليث، فقال: أطع أمك فإن لها ثلثي البر. ونحن نوافق بهذا الرأي مصداقا بقوله صلى الله عليه وسلم: ”إن الله يوصيكم بأمهاتكم (ثلاثا) ثم إن الله يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب“.
فالحق سبحانه وتعالى يصورنا صورة واضحة فى مشقة الحمل والوضع والرضاع بقوله: ”ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله فى عامين أن اشكر لى ولوالديك إلي المصير“21. ”حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا“31 وفسر الزحيلى هذه الآية وقال: آى وأمرنا الإنسان وألزمناه ببر والديه وطاعتهما وأداء حقوقهما، ولا سيما بر الأم التى حملته فى ضعف فوق ضعف من الحمل إلى الطلق إلى الولادة والنفاس، ثم الرضاعة والفطام فى مدة عامين، والتربية ليلا ونهارا.
وفى الحديث النبوي أحقية الأم بالبر، فأوصى بها ثلاث مرات ثم أوصى الأب فى المرة الرابعة، فجعل له ربع المبرة41. لو لم يذكر الله عز وجل فى كتابه حرمة الوالدين ولم يوص بها، لكان يعرف بالعقل السليم أن حرمتهما واجبة.
الإستنباط :
وفى الحديث الشريف بيان واضح على العاقل أن يحترز عن أن يكون عاقا لوالديه. وكان الواجب على العاقل أن يعرف حرمتهما ويقضي حقهما ويسعى فى تحصيل رضاهما. وقد أمر بطاعتهما فى جميع كتابه، وأوحى إلى جميع الرسل وأوصاهم بحرمة الوالدين.
1 . الإمام النووى، الجزء الثانى، ص: 510.
2 . بهز بن حكيم هو أبو معاوية بن حيدة القشيرى، وقد تكلم فى بهز بن حكيم وهو ثقة عند أهل الحديث.
3 . الإمام النووى أبن العربى المالكى، الجزء الرابع، ص: 305.
4 . الإمام أبو الطيب أبادى، الجزء الرابع عشر، ص: 33- 34.
5 . الإمام ابن ماجه، الجزء الثانى، ص: 1207.
6 . الإمام ابن حجر العسقلانى، الجزء الثانى عشر، ص: 4.
7 . الإمام الحاكم النيسابورى، المجلد السابع، ص: 2587.
8 . أنظر محمد فؤاد عبد الباقى، تحقيق سنن ابن ماجه وتعليقه، ص: 1207
9 . العقوق بالضم من العق، يقال عق والده إذا عصاه وهو ضد البر، والمراد به صدور ما يتأدى به الأصل من فرعه من قول أو فعل.
41 . أنظر وهبة الزحيلى، التفسير المنير فى العقيدة والشريعة والمنهج (بيروت: دار الفكر، 2003) المجاد الحادى عشر، ص: 160.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar