الأعمال
بالنيات
حَدَّثَنَا
الحُْمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيْدٍ
الأَنْصَارِى قَالَ أَخْبَرَنِى مُحَمَّدٌ بْنُ إِبْرَاهِيْمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ
سَمِعَ عَلْقَمَةَ ابْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُوْلُ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ :
سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُوْلُ : "إِنَّمَا
اْلأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيْبُهَا أَوْ إِلَى إمْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ
إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"(1).
تنبيه
وتقديم :
ولعل الإمام المتقن المحدث البخارى
إختار هذا ميلا إلى جواز الإختصار ولو من أثناء الحديث. وأكد ابن حجر العسقلانى
بقوله : فكان البخارى إمتثل قوله صلى الله عليه وسلم "قدّموا قريشا"،
فافتتح كتابه بالرواية عن الحميدى(2) لكونه أفقه قريشا أخذ عنه وله مناسبة أخرى لأنه
مكي كشيخه، فناسب أن يذكر فى أول ترجمة بدئ الوحي لأن ابتداءه بمكة المكرمة. ومن
ثم ثنى بالرواية عن مالك لأنه شيخ أهل المدينة وهي تالية لمكة المكرمة فى نزول
الوحي وفى جميع الفضل، ومالك وابن عيينة قرينان. قال الشافعي : لو لا هما لذهب
العلم من الحجاز(3).
واقتداء وتبركا أقدم هذه الرواية
الصحيحة تصنيفى راجيا لله عز شأنه وتعالت عظمته أن يفتح لى وللمسلمين باب القبول
والهداية، وأن يعم لى وللجميع بالبركة والإحسان، وأن يجعلنى من المخلصين لله رب
العالمين. آمين.
1-
التخريج :
روى هذا الحديث البخارى فى
سبعة مواضع من صحيحه. رواه فى باب كيف كان بدء الوحي، وفى آخر كتاب الإيمان(4)، وفى كتاب العتق فى باب الخطإ والنسيان فى العتاقة(5)، وفى كتاب مناقب الأنصار فى باب هجرة النبي(6)، وفى كتاب النكاح(7)، وفى كتاب الإيمان والنذر فى باب النية فى الإيمان(8)، وفى كتاب الحيل(9). وروى مسلم فى كتاب الإمارة من سبع طرق(01). وأخرجه أيضا أبو داود فى كتاب الطلاق فى باب فيمن
عنى به الطلاق والنيات. والترمذى فى كتاب الجهاد. وابن ماجه فى كتاب الزهد.
والنسائى فى كتاب الطهارة، والطلاق، والإيمان. وأحمد بن حنبل فى مسنده. وابن حبان
فى صحيحه. والطحاوى فى معانى الآثار. والبيهقى فى السنن. والمنذرى فى الترغيب
والترهيب.
2-
معانى المفردات :
¨
إنما : إنها أداة حصر،
ومعنى ذلك أنه تدل على ثبوت الحكم فى المذكور وعلى نفيه عما عداه.
¨
الأعمال : جمع عمل. والعمل
فى اللغة : كل فعل يحدث مع القصد إليه وإرادته. ومن أجل هذا لا ينسب العمل إلا للإنسان، لأنه الذى يمكن أن
يقصد الشيء ويريده. وأما الفعل قد يكون عن قصد وقد يكون من غير قصد. كذلك يصح أن
يسند الفعل إلى الحيوان. ونتأمل هذه الآية : "إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات"(11)، والآية : "من يعمل من الصالحات"(21)، والآية : "إنما التوبة على الله للذين
يعملون السوء بجهالة"(31).
¨
بالنيات : جمع النية.
والنية مصدر نوى الشيء ينويه. ومعناه فى اللغة : القصد. تطلق النية على انبعاث
القلب نحو شيء يراه موافقا وملائما لغرض من أغراضه. أما جلب مصلحة أو دفع مضرة إما
فى الحال وإما فى المآل. وأهل الشرع يخصون النية بالإرادة المتوجهة نحو فعل من
الأفعال إبتغاء رضوان الله تعالى وطلبا لمثوبته وامتثالا لأمره تعالى. والباء
للمصاحبة، ويحتمل أن يكون للسببية بمعنى أنها مقومة للعمل فكأنها سبب فى إيجاده.
¨
وإنما لكل امرئ ما نوى :
قال القرطبى : فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص فى الأعمال. وقال غيره : بل تفيد
غير ما أفادته الأولى. لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فيترتب
الحكم على ذلك. والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه(41).
¨
فمن كانت هجرته إلى دنيا :
الهجرة مأخوذة من الهجر، يعنى مفارقة الإنسان غيره، إما ببدنه وإما بلسانه وإما
بقلبه. ولننظر إلى قوله تعالى : "وَاهْجُرُوْهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ"(51)، يحمل على المفارقة بالبدن. وقوله : "إِنَّ قَوْمِىْ
اتَّخَذُوْا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوْرًا"(61)، يحمل على المفارقة بالقلب واللسان جميعا، لأن
الكفار إعتقدوا بقلوبهم ما لايجوز اعتقاده فى القرآن ولم يكتفوا بأن تكون هذه
عقيدتهم بقلوبهم، بل نطقوا بألسنتهم بتكذيبه. وفى الشرع ترك ما نهى الله تعالى
عنه، وقد وقعت فى الإسلام على وجهين، الأول : الإنتقال من دار الخوف إلى دار الأمن
فى هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة إلى المدينة. والثانى : الهجرة من دار الكفر إلى
دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من
أماكنه ذلك من المسلمين(71).
¨
إلى دنيا : من الدنو آى
القرب. سميت بذلك لسبقها للآخرة. وقيل سميت دنيا لدنوها إلى الزوال. واختلف فى
حقيقتها، فقيل ما على الأرض من الهواء والجوّ، وقيل كل المخلوقات من الجواهر
والأعراض.
3- الشرح :
إن هذا الحديث الشريف جاء
فى شأن رجل هاجر من مكة المكرمة إلى يثرب، لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر
لتزويج امرأة تكنى أم قيس. كان قد خاطبها لنفسه فأبت أن تتزوجه إلا أن يهاجر. ولم
يحك الرواة إسم هذا الرجل سترا له. وأما أم قيس فذكروا أن اسمها "قيلة".
وقد لقبوا الرجل بمهاجر أم قيس.
فالله سبحانه وتعالى لما
أمر الحبيب صلى الله عليه وسلم بالهجرة قال : "يا محمد أخرج من مكة إلى
المدينة فإن لى سر أدبره". ومن ههنا نفهم أن الهجرة من أمر الله تعالى وهي من
العبادةز وقد أطلق المسلمون فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الهجرة على
شيئين، أولها : مفارقة دار الخوف إلى دار الأمن، لأنهم سموا من فارق مكة المكرمة
حيث كان يعذب ويقصدون الحبشة حيث يجدون من يحميهم ويدافع عنهم باعتبارهم لائذين به
مستظلين بكنفه وحمايته. ومن الأمور الطبيعية التى يجب على الإنسان أن يفعلها أن
يفارق المكان الذى لا يأمن فيه على نفسه أو اهله أو عقيدته إلى مكان آخر يجد فيه
برد الطمأنينة وينشق فيه بنسيم الأمان. وانظر هذه الآية الكريمة : "إن الذين
توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنامستضعفين فى الأرض قالوا لم
تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا(81). والشيء الثانى مما أطلق المسلمون عليه لفظ الهجرة
مفارقة دار الكفر إلى دار الإيمان.
وقد ورد فى الحديث
"المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"(91)، وهذا بعد فتح مكة لأن كثيرا ممن لم تيسر لهم
الهجرة من مكة إلى المدينة قبل الفتح كانوا يتحرقون أسفا على أن لم يكونوا ممن كتب
الله تعالى لهم هذا المجد العظيم، فطمأنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم إن
فعلوا ما أمرهم الله به وتركوا ما نهاهم الله عنه فلم يقربوه لا بأبدانهم ولا
بألسنتهم ولا بقلوبهم كان لهم من الأجر ما يعدل أجر من فارق مكة المكرمة إلى
المدينة. وهذا الحديث موافق بحديث ابن عباس رضي الله عنه بعد الفتح "إنما
الجهاد عقيدة ونية وإذا استُنْفِرْتم فانْفِرُوا"(02).
وإذا عرفنا أن درجة
الأعمال من درجات نياتها. وكان لكل عمل جزاء سعادة فى الدنيا ونعيم فى الآخرى أو
خلافهما. بين الرسول صلى الله عليه وسلم بالجملة الثانية أن لكل إنسان جزاه ما
نواه، فمن كانت نيته ثواب الله ومرضاته فله ذلك. فمن كانت نيته شرا فله الويل. فمن
نوى عرضا دنيويا محضا فلا حظَّ له فى الثواب.
ولقد جعل الإسلام من هذه
الأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس لما تتحمله من أعباء كثيرة فى سبيل الدعوة إلى
الله سبحانه، ولما تقدمه للبشرية من حياة هادئة، تفيض بالخير الوفير وبالنعيم
المقيم، كما جعل الإسلام من هذه الأمة أمة تزكو بالفلاح، وتزهو بالنجاح ما دام
المسلمون على عهدهم مؤمنين وبحبل المولى تبارك وتعالى المتين متمسكين مخضعين
حياتهم لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستنيرين بهديه مسترشدين
ومستبصرين بسنته.
والحديث عن النية هو
الحديث عن الصراع الدائم المستمر بين الحق والباطل، وبين الشر والخير، الشر
المتمثل فى أهل الباطل بكثرة طغيانهم. ومن هنا كان الحديث يتكلم عن سلسلة من
المواقف التى ثبت فيها أهل الحق، وضربت الذلة والمسكنة على أهل الباطل.
إن الإنسان بطبيعته مهاجر بمعنى
أن أيامه على ظهر الأرض وإن طالت فهي محدودة ومعدودة يهاجر بعدها من الحياة الدنيا
إلى الحياة الأخرة حيث تبدأ حياته الحقيقية التى لن تنتهي. وفيها يتحدد وجوده إما
فى الجنة وإما فى النار. وذلك حسب أعماله التى فعلها وحسب ميزان حسناته وسيئاته
وأيهما الأرجح.
والإنسان فى نظر الإسلام
ليس مجرد مخلوق من تلك المخلوقات التى خلقها المولى الكريم والتى تعددت وتنوعت،
وإنما هو أسمى وأعظم. فقد فضَّله خالقه على سائر المخلوقات بأجمعها، كما جاء فى
القرآن "ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"(12). فكلمة "وحملناهم فى البحر والبر" دليل
واضح على انتقالهم وهجرتهم من بلد إلى بلد آخر.
فتحركات الإنسان فى كل
ميادين الحياة الإجتماعية لها قيمة معينة عند مولاه، هل هي من الأعمال الصالحة أو
هي من الأعمال السيئة. فكلاهما من تصدر وتبعيث من قلوبهم حتى إذا أهم شيئا يكتب
عنده من الأجر والعقاب. والله أعلم.
4-
الإستنباط :
أرشدنا المصطفى الكريم على
وجود النيات فى الأعمال. وهو ينظر ما يعلن وما يخفى الصدور. فللمسلمين أن يصلحوا
نياتهم حتى يفوزوا ويثابوا فى الآخرة. ثم بين أيضا أن الهجرة من سنة الحياة
للإنسان، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. والله أعلم.
(1) الإمام أبو عبد الله بن إسماعيل ابن إبراهيم ابن
المغيرة البخارى (وبعد هذا تكتب بالإمام البخارى)، صحيح البخارى (بيروت، دار الفكر
: 1981) الجزء الأول ص 2.
(2) الحميدى هو أبو بكر بن عبد الله
بن الزبير بن عيسى، منسوب إلى حميد بن أسامة بكن من بنى أسد بن عبد العزى بن قصي
رهط خديجة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم. ويجتمع مع النبي صلى الله عليه سلم فى
قصي. فقد رافق الشاقعي فى الطلب عن ابن عيينة، ورحل معه إلى مصر، ورجع بعد وفاة
الشافعي إلى مكة، ومات سنة 219 هجرية.
(3) الإمام إبن حجر العسقلانى، فتح
البارى شرح صحيح البخارى (بيروت : دار الفكر، 1993) الجزء الأول ص 16.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar