إختلاط الرجل بالمرأة الأجنبية
حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وزهير بن حرب كلاهما عن سفيان قال أبو بكر حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا عمرو بن دينار عن ابن معبد، قال سمعت ابن عباس يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول : " لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافرِ المرأة إلا مع ذي محرم "، فقام رجل فقال : يارسول الله، إن امرأتى خرجت حاجَّةً وأنا اكْتتِبتُُ فى غزوة كذا وكذا، قال : " إنطلق فحُجَّ مع امرأتك "1.
التخريج :
وأخرج مسلم من طريق آخر عن ابن جريج2، ولم يذكر لا يخلون رجل بامرأة إلخ. وأخرج البخاري فى كتاب النكاح فى باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة، وفى باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس. وفى الباب عن عقبة بن عامر رضي الله عنه3 أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إياكم والدخول على النساء "، وعن ابن عباس أيضا "إرجع" بدلا من "إنطلق"4. والترمذي فى كتاب الرضاع فى باب ما جاء فى كراهية الدخول على المغيبات5 بزيادة هذا اللفظ "إلا كان ثالثهما الشيطان"، وقال : حديث عقبة بن عامر حديث حسن صحيح6. وفى باب ما جاء فى لزوم الجماعة مع هذه الزيادة "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد..إلخ7. وروى أيضا أحمد بن حنبل عن ابن عباس8. وابن ماجه فى كتاب المناسك ؛باب المرأة تحج بغير ولي9.
راوى الحديث :
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، وهو من الطبقة الخامسة (وهم الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أحداث الأسنان). توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان خير الأمة ويسمى "البحر" لغزارة علمه. وكان عمر وعثمان رضي الله عنهما يدعوانه فيشير عليهما مع أهل بدر، وكان يفتى فى عهدهما إلى أن مات. فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " اللهم فقهه قى الدين وعلمه التأويل "01. وفى رواية : "علِّمه الحكمة"11. وعند عبد الله ابن عمر قال : " اللهم بارك فيه وانشر منه "21. توفي ابن عباس بالطائف سنة ثمان وستين وهو ابن إحدى وسبعين سنة. وعن ميمون ابن مهران قال : شهدت جنازة عبد الله ابن عباس بالطائف، فلما وضع ليصلي عليه، جاء طائر أبيض جتى دخل فى أكفانه فالتُمِسَ فلم يوجد فلما سُوي عليه سمعنا صوتا، نسمع صوته ولا نرى شخصه : يا أيتها النفس المطمئنة، إرجعي إلى ربك راضية مرضية..إلخ31. وقال جابر : مات أعلم الناس، وأحلم الناس، ولقد أصيبت به هذه الأمة مصيبة لا تُرْتَق41.
التحليل اللفظي :
- إلا ومعها ذو محرم : هذا إستثناء منقطع، لأنه متى كان معها محرم لم تبق خلوة. فتقدير الحديث "لايقعدن رجل مع امرأة إلا ومعها محرم". ويحتمل أن يريد محرما لها. ويحتمل أن يريد محرما لها أو له. وهذا الإحتمال الثانى هو الجارى على قواعد الفقهاء. فإنه لا فرق بين أن يكون معها محرم لها كابنها وأمها وأخيها أو يكون محرما له كأخته وبنته وعمته وخالته، فيجوز القعود معها فى هذه الأحوال61. وأكد الشوكاني أن فى الحديث منع الخلوة بالأجنبية وهو إجماع71.
- فحج مع امرأتك : فيه دليل على أن الزوجة داخل فى مسمى المحرم أو قائم مقامه81. وأضاف الشوكاني فى شرح هذا الحديث رواية الدارقطنى عن ابن عمر مرفوعا فى امرأة لها زوج ولها مال، ولا يأذن لها فى الحج ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها91.
فقه الحديث :
وإذا نظرنا هذا الحديث الشريف بدقة جيدة، ونظرنا أيضا الأحوال الإجتماعية الحديثة فلا بد علينا أن نسأل، هل يجوز للطالبة أن تخرج إلى بلد مسافته عشرة كيلومترات، تقصد الدراسة ودون محرم معها، وتنتظر الحافلة للإنتقال عليها ذهابا وإيابا؟، وهل يجوز أن تختلط الطالبة والطالب فى فصل واحد بدون حجاب؟، وهل يجوز عليهما أن يتبادل الزيارة لغرض معين؟
إذا كانت الطالبة تنتقل إلى كليتها أو جامعتها البعيدة عن محل سكنها مع زميلات لها فى الحافلة الجماعية فلا بأس بذلك. والممنوع والمحرم هو انفرادها مع سائق أجنبي خلال انتقالها. وقد أجاز الإمام مالك رحمه الله تعالى للمرأة أن تخرج إلى الحج- إذا تعذر المحرم مع رفقة من نساء صالحات.
ومن جملة ما استدل به المانعون من النظر والإختلاط مطلقا قوله تعالى : ” قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم “02.وقوله : ” فاسألوهن من وراء حجاب “12. وقوله تعالى : ” ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها “22. والأحاديث النبوية الشريفة فى منع ذلك لفظية ومعنوية كثيرة ولا تحصى كما جمعها الشوكانى فى النيل فى باب النهي عن الخلوة بالأجنبية32.
وعلة التحريم ما فى الحديث من كون الشيطان ثالثهما، وحضوره يوقعهما فى المعصية. وأما مع وجود المحرم فالخلوة بالأجنبية جائزة لامتناع وقوع المعصية مع حضوره. وزاد لنا الإمام السنقيطى علما بأن الإمام مالكا كره سفر المرأة مع ابن زوجها وإن كان ذا محرم، منها لفساد الناس بعد العصر الأول، ولأن المحرومية فى هذا ليست فى المراعاة كحرمة النسب. وما روي عن الإمام مالك من كراهة سفرها مع ابن زوجها للعلة المذكورة منسحب على المحرم من الرضاع من باب أخرى42.
ومن ناحية أخرى علق الشيخ ابن العربي رحمه الله تعالى حديث عقبة بن عامر : " إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار :” يارسول الله أفرأيت الحمو؟ قال : الحمو الموت ". فقال فيه الأحماء من قبل الزوج محارمها والختن من قبل محارمه والصهر جامعها، ويعنى به الموت الذى لا بد منه فى مخالطتها عليها دون حجاب كما أن الموت يدخل إليها دون حجاب52.
الإختلاط والدخول على المغيبات أمر خطير لا شك فيه. فالإجتناب عنه أولى وأفضل، بل قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : " لا تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجرى مجرى الدم "62.
وفى الجديث أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم الزوج بالخروج مع امرأته لتأديتها حج الفريضة، وهذا على سبيل الإستحباب وليس واجبا عليه، ولا يجوز له منعها من أداء فريضة الحج، لأنها عبادة مفروضة ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، ويجوز له منعها فى حج التطوع.
فاشتراك واختلاط الرجل والمرأة فى العمل العام من الصلاة فى المسجد والجهاد فى سبيل الله وطلب العلم فى المدارس والجامعات حتى فى البيع والشراء والطب وغيرها من الأعمال الإجتماعية أمر جائز ومعروف عند الجميع.فلقد شرع القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لمبدأ الإشتراك والمشاركة بين الرجال والنساء. وهذه الآية دليلة على ذلك : ” والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله “72. وأما فى السنة النبوية الخاتمة لقد شاركت فى الهجرة إلى الحبشة (سنة الخامسة قبل الهجرة) ثماني عشرة امرأة مع ثلاثة وثمانين رجلا82، وشاركت أسماء بنت أبى بكر وأختها عائشة وغيرها فى الهجرة إلى المدينة كما شاركت فى بيعة العقبة أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية وأم منيع أسماء بنت عمرو بن عدى الأنصارية92.
لقد فتنت المرأة فى دينها كما فتن الرجل، وأخرجت المرأة من بيتها كما أخرج الرجل من بيته، ولذلك أذن الله عز وجل للجميع بالقتال وكتبه على الجميع مع تميز إسهامات كل النوعين فى هذا الميدان من ميادين العمل العام. والله أعلم.
الإستنباط :
حرم الشارع الحكيم الخلوة بالمرأة الأجنبية خشية أن يوقع بينهما الشيطان الفتنة، لأنه ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما. وفى حكم الخلوة السفر بها سواء كان قريبا أو بعيدا فلا يجوز لها إن سافر إلا مع ذي محرم نظرا إلى المعنى السابق وهو خشية الفتنة.
1 . الإمام مسلم، الجزء الأول، ص : 617
2 . هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموى، روي الحديث عن حكيمة بنت رفيقة، وأبيه عبد العزيز، وعطاء بن أبى رباح، وإسحاق بن أبى طلحة، وزيد بن أسلم وغيرهم، وعنه إبناه عبد العزيز، ومحمد، والأوزاعى والليث وغيرهم. وقال علي بن المدينى عن يحيى بن سعيد المدينى : ابن جريج أثبت فى نافع من مالك، وقال أحمد : إبن جريج أثبت الناس فى عطاء. وقال أحمد عن عبد الرزاق : ما رأيت أحسن صلاة من ابن جريج. قال ابن سعد : ولد سنة ثمانين، ومات سنة تسع وأربعين ومائة. (أنظر إبن حجر العسقلانى، التهذيب، الجزء الخامس، ص : 303-306)
3 . عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدى، أبو حماد ويقال أبو سعاد ويقال أبو عامر، وكذا الإختصار. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر. وروى عنه أبو أمامة، وابن عباس، وقيس بن أبى حازم وغيرهم. ولى إمرة مصر من قبل معاوية سنة 44. وقال الواقدى : توفي فى آخر خلافة معاوية، ودفن بالمقطم. وقال خليفة : مات سنة ثمان وخمسين. (أنظر إبن حجر العسقلانى، ص : 208- 209)
5 . المغيبات جمع المغيبة، من غاب عنها زوجها.
8 . الإمام أحمد بن حنبل، الجزء الأول، ص : 222
42 . الإمام محمد حبيب الله السنقيطى، راد المسلم فيما اتفق عليه البخارى ومسلم (بيروت : دار إحياء التراث العربى، بدون السنة) المجلد الخامس، ص : 201
62 . أخرجه الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنهما. وسببه (كما فى البخارى) أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته صفية بنت حيي، فلما رجعت إنطلق معها، فمر به رجلان من الأنصار، فدعاهما فقال "إنما هي صفية" قالا سبحان الله، قال إن الشيطان تذكره. (أنظر الإمام السيوطى، البيان والتعريف، الجزء الأول، ص :449)
Tidak ada komentar:
Posting Komentar