حق الجوار
حدثنا إسماعيل بن أبى قيس قال: حدثنى مالك عن يحيى بن سعيد قال: أخبرنى أبو بكر بن محمد عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ”ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه“1.
التخريج :
وقال المنذرى: وروى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والترمذى وابن ماجه. وفى رواية لمسلم عن عمر بن محمد عن أبيه قال: سمعت ابن عمر يقول:...وذكر الحديث. وله أيضا عن أبى ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك“2.
وللترمذى فى كتاب البر والصلة فى باب ما جاء فى حق الجوار عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره“3.
ولابن ماجه فى كتاب الأدب، باب حقوق الجوار. وله حديث آخر عن أبى شريح الخزاعى أنه قال: ”من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت“4.
ولأبى داود عن أبى هريرة لفظ "فلا يؤذى جاره". وعن عائشة قالت: قلت يا رسول الله إن لى جارين بأيهما أبدأ، قال: ”بأدناهما بابا“5.
التحليل اللفظي :
ما زال : ما زال ولا يزال خصا بالعبارة، وأجرى مجرى كان فى رفع الإسم ونصب الخبر. وأصله من الياء كقولهم "زيلت". ومعناه: ما برحت. وانظر قوله تعالى: ”ولا يزالون مختلفين“6. ”ولا يزال بنيانهم“7. ”ولا يزال الذين كفروا“8. ”فما زلتم فى شك“9.
يوصينى : من وصى يوصى وصية، وجمعه وصايا كالهدايا. وتطلق على فعل الموصى وعلى ما يوصى به من مال او غيره من عهد ونحو فتكون بمعنى المصدر وهو الإيصاء، وتكون بمعنى المفعول وهي فى الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت. ويقال وصية بالتشديد، ووصاه بالتخفيف بغير همز، وتطلق شرعا على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات01.
يوصيكم الله : ”يوصيكم الله للذكر مثل الأنثيين“11.”ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيئ يريد أن يوصى فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه“21.
الجار : واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب دارا والأبعد31. وجمعه جيران.
حتى ظننت : آى لما أكثر علي فى المحافظة على رعاية حقه ظننت آىسيحكم بتوريث الجار من جاره بأن يأمرنىعن الله به41.
راوى الحديث :
عائشة رضي الله عنها.
هي عائشة بنت أبى بكر الصديق القرشية التتمية. وأمها رومان بنت عامر بن عويمر. وكانت امرأة بيضاء جميلة، ومن ثم يقال لها الحميراء. ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها. ولما ولد عبد الله بن الزبير (إبن أختها أسماء) أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفل فى فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريقه عليه الصلاة والسلام، وقال هو عبد الله وأنت أم عبد الله. لذلك كنيت بأم عبد الله.
وروى الطبرانى بإسناد حسن عن عمرو بن العاص قال: قيل يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: ”عائشة“، قيل: فمن الرجل؟ قال: ”أبوها“.
وروى أبو يعلى والبزار بسند حسن عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكى، فقال: ”ما يبكيك؟“، قالت: سبتنى فاطمة51، فقال: ”يا فاطمة أسبيت عائشة؟“، قالت: نعم،قال: ”أليس تحبين من أحب؟“، قالت: نعم، قال:”وتبغضين من أبغض؟“، قالت: نعم، قال: ”فإنى أحب عائشة فأحبيها“، قالت فاطمة: لا أقول لعائشة شيئا يؤديها أبدا61.
كانت ذكية فطنة طلابة للعلم، يسر لها زواجها من رسول اله صلى الله عليه وسلم واختلاطها به معرفة كثير من أحكام الإسلام. ولها الفضل الكبير فى نقل كثير مما يتعلق بأمور النساء. كذلك كانت أكثر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية عنه. وتعد أفقه الصحابة، وقد شهد بعلمها وفقهها الصحابة والتابعون كما كان لها علم بالطب. إذ أفلا غرابة أن نرى الصحابة يلتفون حولها يتفقهون بها ويرجعون إليها فى أمورهم.
روت عائشة رضي الله عنها عن الرسول الكريم وأبيها، وعمر، وفاطمة، وسعد بن أبى وقاص، وأسيد بن حضير71، وجذامة بنت وهب، وحمزة بن عمر. وعنها عبد الله ابن عمر، وأبو هريرة، وأبو موسى، وزيد بن خالد، وابن عباس، وغيرهم. وروى لها ألفان ومائتان وعشرة أحاديث، لها فى الصحيحين 316 حديثا، اتفق الشيخان على 194 حديثا منها. وانفرد البخارى ± 45 حديثا، ومسلم ± 68 حديثا.
توفيت رضي الله عنها سنة ثمان وخمسين، ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان، انتهى.
فقه الحديث :
الإسلام دين الأخاء والتسامح، دين الإسلامية والعدل والمساوة والتراحم، هو الدين الذى حفظ حقوق غير المسلمين كما حفظ حقوق المسلمين، وهو الدين الذى أمن غير المسلمين على حياتهم وأموالهم وأعراضهم وحريتهم، لا يضارون فى شيء طالما حفظوا العهد. وإمامنا الآيات الكريمة تدل على ذلك: ”لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلو هو أقرب للتقوى“81.
وفى هذا البحث المتواضع أحب أن أقدم عدة حدوث التى حدثت بين يدي الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وعند ما بعث أبو بكر بالجيوش لفتح الشام تحت أمرة أسامة بن زيد91 عملا بوصية الرسول، أوصاهم بالتجنب للسلب والمخادعة ونقض العهود، وأمرهم بألآ يمثلوا بأحد ولا يقتل طفلا ولا شيخا ولا امرأة، وألا يقتلوا نخلة أو يحرقوها، وألا يحطموا أية شجرة ذات ثمار، وألا يذبحوا شاة ولا بقرة ولا جملا إلا لسد غائلة الجوع. وقال لهم إنهم يسجدون رهبانا ومعبدهم، وأمرهم بأن يتركوهم وشأنهم ولا يمسوهم بسوءويحكى أن أحد المسلمين من قبيلة بكر بن وئل قتل نصرانيا والحيرة، وعرض الأمر على عمر بن الخطاب، فأمر بالقاتل أن يسلم إلى حنين وريث القاتل فقتله بيده.
ولما فتح خالد بن الوليد02 قائد جيش المسلمين الحيرة فى خلافة أبى بكر الصديق، عاهد أهلها من غير المسلمين، وقال: هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد نقباء أهل الحيرة. ورضي يذلك أهل الحيرة، وأمرهم به. عاهدهم على مئة وتسعين ألف درهم تقبل فى كل سنة جزاء على أيديهم فى الدنيا رهبانهم وقسسهم إلا من كان منهم على غير ذى يد حبيسا عن الدنيا تاركا لها وعلى المتعة وأن لم يمنعهم، فلا شيء عليهم حتى يمنعهم.
وفى رواية ان ابن عمر رأى وهو خارج المسجد شيخا ضريرا يسأل على باب، ولما علم أنه يهودي، قال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟، فقال اليهودي: أسأل الجزية والحاجة، فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى بيته، وأعطاه ما يكفيه ساعتها، وأرسل إلى خازن بيت المال يقول: أنظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شيبته ثم نخذله عند الهرم ”إنما الصدقات للفقراء والمساكين“12. والفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ورفع عنه الجزية وعن ضربائه.
وأذكر أيضا ما وقع لأسماء بنت أبى بكر لما قدمت أمها وهي مشتركة فى عهد قريش، فقالت: يا رسول الله إن أمى قدمت علي وهي راغبة، أفأصلها؟، قال : ”نعم، صليها“22.
وفى الواقع، أننا نعيش فى دولة عظيمة مختلفة الأديان والمعتنقات، منها المسيحية والهندية والبوداية واليهودية، إذا هم جيراننا وهم من الأقليات، فلا بد علينا أن نعاملهم معاملة الصحابة رضوان الله عليهم. وقد حذرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك مثل قوله: ”لا يدخل الجنة من لآيأمن جاره بوائقه“32. ”ليس بمؤمن من لا يأمن جاره عوائله“42. ”ليس المؤمن الذي يبيت وجاره إلى جانبه جائع“52.
الإستنباط :
وفى الحديث الشريف إرشاد واضح ونور ساطع على بناء وحفظ سلامة الجار القريب والبعيد والغني والذليل الكافر والفاسق. والله أعلم.
1 . الإمام ابن حجر العسقلانى، الجزء الثانى عشر، ص: 56.
2 . الإمام النووى، المجلد الثانى، ص: 541.
3 . الإمام ابن العربى المالكى، الجزء الرابع، ص: 328.
4 . الإمام ابن ماجه، الجزء الثانى، ص: 1211.
5 . الإمام أبو الطيب أبادى، الجزء السابع، ص: 42.
6 . أنظر سورة هود: 118.
7 . أنظر سورة التوبة: 110.
8 . أنظر سورة الرعد: 31.
9 . أنظر سورة غافر: 34.
01 . الإمام محمد على الشوكانى، نيل الأوطار بشرح منتقى الأخبار (بيروت: دار الفكر، بدون السنة) المجلد السادس، ص: 142- 143.
71 . هو أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك، يكنى أبا يحيى، كان من انقباء ويكتب بالعربية، وأسلم على يد مصعب بن عمير قبل سعد بن معاذ بساعة، وشهد العقبة الأخيرة مع السبعين، ولم يشهد بدرا، ولكنه شهد أحدا، وجرح يومئذ سبع جراحات، وتوفي فى شعبان سنة عشرين (أنظر ابن الجوزى 1/ 226- 227) .
91 . أسامة بن زيد هو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكنى بأبى محمد، وأمه أم أيمن خاضنة رسول الله. وروى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيهم أبو بكر وعمر، فاستعمله عليهم، فكأن الناس طعنوا فيه آى لصغره، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ”إن الناس قد طعنوا فى إمارة أسامة، وقد كانوا طعنوا فى إمارة أبيه من قبله وإنهما لخليقان لها، أو كانوا خليقين لذلك. وأنه لمن أحب الناس إلي، وكان أبوه من أحب الناس إليها، ألا فأوصيكم بأسامة خيرا“. وقبض النبي وأسامة ابن عشرين سنة، ومات فى آخر خلافة معاوية.
02 . خالد بن الوليد هو ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، يكنى أبا سليمان. وكان خالد فى جاهليته شابا جلدا قويا. وكانت الغزوة الأولى التى اشترك فيها خالد بعد إسلامه هي غزوة مؤتة، وكانت فى جمادى الأولى سنة ثمان من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم آى أنه لما يمضى على إسلامه ثلاثة أشهر، والمعركة الثانية فتح مكة فى رمضان. ولقد كان رضي الله عنه لا يحفظ من القرآن إلا آيات معدودة، واقد حدثوا أنه أم الناس يوما بالحيرة فقرأ آيات من سور شتى، ثم التفت إلى الناس وقال بهم معتذرا عن عدم حفظه للقرآن "شغلنى الجهاد عن تعليم القرآن". ولما قرب وقت وفاته يقول: لقد شهدت مائة زحف أو زهائها، وما قى جسدى شبر إلا وفيه ضربة سيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا أموت على فراشى حتف أنفى كما يموت البعير. (أنظر "صابر عبده إبراهيم خالد بن الوليد"، ص:84).
22 . محمد بن على الشافعى الشنوانى، حاشية على مختصر ابن أبى حمزة للبخارى (سورابايا: مكتبة الهداية، بدون السنة) ص:140.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar