| ||||||
المقدمة :
التوفيق بين الأحاديث المختلفة أو ترجيح بعضها منهج في الاستنباط كان قبل الإمام الشافعي. إلا أنه لم يكن منظرا له تنظيرا أصوليا.
فبعض الصحابة –كسهل بن سعد- وفق بين حديث "الماء من الماء" وحديث "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" بأن الأول منسوخ بالثاني[1]. والسيدة عائشة عندما سمعت عمر بن الخطاب يروي عن رسول الله e قوله: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» قالت: "يرحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله أن الله يعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله e قال: إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه، حسبكم القرآن (ولا تزر وزرة وزر أخرى) [2]".
والبحث مستقر حتى الآن على أن الشافعي أول من أصل لعلم مختلف الحديث تأصيلا علميا نظريا[3]. ولقد أعد مقدمة طويلة لكتابه "اختلاف الحديث" تكلم فيها عن أن العالم إذا صح عنده الحديث فلا يسعه إلا أن يعمل به، وهو مستغن بنفسه، لا يقويه موافقة قول صاحب له، ولا يوهنه مخالفته له؛ فهو إذا صح لا التفات إلى غيره من الأقاويل والعمل. ثم تكلم عن مبحث العموم والخصوص، والنسخ، وعن مقام السنة من القرآن، وعن أن الحديث الصحيح لا يخالف القرآن، ولا يخالف بعضه بعضا. وعلى هذا فإن الأصل عنده هو الجمع بين الحديثين الصحيحين المختلفين ما أمكن الجمع؛ ولا يحكم بأن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ إلا بدلالة. قال في أواخر هذه المقدمة: "والحديث عن رسول الله كلام عربي؛ ما كان منه عام المخرج عن رسول الله.. يخرج عاما وهو يراد به العام، ويخرج عاما وهو يراد به الخاص. والحديث عن رسول الله على عمومه وظهوره حتى تأتي دلالة عن النبي e بأنه أراد به خاصا دون عام. ويكون الحديث العام المخرج محتملا معنى الخصوص بقول عوام أهل العلم فيه أو من حمل الحديث سماعا عن النبي e بمعنى يدل على أن رسول الله أراد به خاصا دون عام. ولا يجعل الحديث العام المخرج عن رسول الله خاصا بغير دلالة ممن لم يحمله ويسمعه..."[4]. ثم قال بعد ذلك: "وكلما احتمل حديثان أن يستعملا معا استعملا معا، ولم يعطل واحد منهما الآخر".[5]
ولقد اعتنى الشافعي اعتناء بالغا ببيان أوجه الاختلاف العارضة لبعض الأحاديث في أواخر مقدمة كتاب اختلاف الحديث، وفي كتابه "الرسالة"، وأعطى من الأمثلة في الكتابين ما يتضح بها كل وجه من هذه الأوجه. وأحب أن أسردها عليكم هنا كما استطرها الشافعي، ثم أثني بذكر الأمثلة، وأختم بذكر ما توصل إليه البحث من نتائج وما أثاره من ملاحظات. وبالله التوفيق.
1 - أوجه الاختلاف بين الأحاديث عند الشافعي :
أود في بداية هذه الفقرة أن أنبه على أن اهتمام الشافعي الفائق بعلم مختلف الحديث ناشئ عن حاجة علمية وأسئلة ملحة كان يثيرها بعض طلاب العلم حول كثير من الأحاديث التي تبدو متعارضة في الظاهر، وينتج عن ذلك التعارض اختلاف بين العلماء. هذا ما نستفيده مما صدّر به الشافعي بابا من "الرسالة" سماه "العلل في الأحاديث":
قال الشافعي: "قال لي قائل: فإنا نجد من الأحاديث عن رسول الله أحاديث، في القرآن مثلها نصا، وأخرى في القرآن مثلها جملة، وفي الأحاديث منها أكثر مما في القرآن، وأخرى ليس منها شيء في القرآن، وأخرى موتفقة، وأخرى مختلفة: ناسخة ومنسوخة، وأخرى مختلفة: ليس فيها دلالة على ناسخ ولا منسوخ، وأخرى فيها نهي لرسول الله، فتقولون: ما نهى عنه حرام، وأخرى لرسول الله فيها نهي، فتقولون نهيه وأمره على الاختيار لا على التحريم. ثم نجدكم تذهبون إلى بعض المختلفة من الأحاديث دون بعض، ونجدكم تقيسون على بعض حديثه. فما حجتكم في القياس وتركه؟ ثم تفترقون بعد: فمنكم من يترك من حديثه الشيء ويأخذ بمثل الذي ترك وأضعف إسنادا منه".[6]
وليس يهمنا إن كان هذا القائل حقيقيا أو تصوره الشافعي، فإن الذي لا ريب فيه أن ما حكاه القائل كان هو واقع الحال. وكان على الشافعي أن ينشئ منهجا منضبطا عاما يحتكم إليه عند وجود أحاديث مختلفة، أو يكون ظاهرها على خلاف ما في القرآن.
وهكذا نجد الشافعي يحصر أوجه الاختلاف اللاحق لبعض الأحاديث، فيقول في الرسالة مجيبا هذا القائل وغيره من طلاب العلم: "..فأما المختلفة التي لا دلالة على أيِّها ناسخ ولا أيها منسوخ: فكل أمره موتفق صحيح لا اختلاف فيه. ورسول الله عربي اللسان والدار، فقد يقول القول عاما يريد العام، وعاما يريد به الخاص.. ويسئل عن الشيء فيجيب على قدر المسألة، ويؤدي المخبر عنه الخبر متقصى، والخبر مختصرا، والخبر فيأتي ببعض معناه دون بعض. ويحدث عنه الرجل الحديث قد أدرك جوابه ولم يدرك المسألة فيدله على حقيقة الجواب، بمعرفته السبب الذي يخرج عليه الجواب. ويسن في الشيء سنة وفيما يخالفه أخرى فلا يخلص بعض السامعين بين اختلاف الحالين اللتين سن فيهما. ويسن سنة في نص معناه[7] فيحفظها حافظ، ويسن في معنى يخالفه في معنى ويجامعه في معنى سنة غيرها باختلاف الحالين، فيحفظ غيره تلك السنة، فإذا أدى كل ما حفظ رآه بعض السامعين اختلافا، وليس منه شيء مختلف. ويسن بلفظ مخرجه عام جملة بتحريم شيء أو بتحليله، ويسن في غيره خلاف الجملة، فيستدل على أنه لم يرد بما حرم ما أحل، ولا بما أحل ما حرم.. ويسن السنة ثم ينسخها بسنته. ولم يدع أن يبين كلما نسخ من سنته بسنته، ولكن ربما ذهب على الذي سمع من رسول الله بعض علم الناسخ أو علم المنسوخ، فحفظ أحدهما دون الذي سمع من رسول الله الآخر، وليس ذلك يذهب ذلك على عامتهم حتى لا يكون فيهم موجودا إذا طلب.."[8]. ثم قال: "..وما لم يوجد فيه إلا الاختلاف فلا يعدو أن يكون لم يحفظ متقصا كما وصفت قبل هذا، فيعد مختلفا، ويغيب عنا من سبب تبيينه ما علمنا في غيره، أو وهما من محدث، ولم نجد عنه (أي النبي e) شيئا مختلفا فكشفناه إلا وجدنا له وجها يحتمل به أن لا يكون مختلفا، وأن يكون داخلا في الوجوه التي وصفت لك. أو نجد الدلالة على الثابت منه دون غيره بثبوت الحديث، فلا يكون الحديثان اللذان نسبا إلى الاختلاف متكافيين، فنصير إلى الأثبت من الحديثين، أو يكون على الأثبت منهما دلالة من كتاب الله أو سنة نبيه أو الشواهد التي وصفنا قبل هذا، فنصير إلى الذي هو أقوى وأولى أن يثبت بالدلائل. ولم نجد عنه حديثين مختلفين إلا ولهما مخرج أو على أحدهما دلالة بأحد ما وصفت: إما بموافقة كتاب أو غيره من سنته أو بعض الدلايل. وما نهى عنه رسول الله فهو على التحريم حتى تأتي دلالة عنه على أنه أراد به غير التحريم".[9]
وذكر الشافعي في أواخر مقدمة كتاب اختلاف الحديث وجها آخر، قال: "..ومنها (أي الأحاديث) ما يكون اختلافا في الفعل من جهة أي الأمرين مباحان..". [10]
وانطلاقا من هذه النصوص يمكن أن نلخص منهج الإمام الشافعي في الأحاديث المختلفة أو ترجيح بعضها على بعض كالآتي:
أ) التوفيق بين الأحاديث المختلفة يجعل بعضها عاما وبعضها خاصا. أو بعضها مطلقا وبعضها مقيدا.
ب) التوفيق بين الأحاديث المختلفة باختلاف الحال أو السبب اللذين ورد فيهما كل حديث..
ج) التوفيق بين الأحاديث المختلفة بجعل بعضها ناسخا وبعضها منسوخا.
د) الترجيح بين الأحاديث المختلفة بكون بعضها أشبه بكتاب الله، أو سنة رسول الله أو القياس. بكونها أثبت إسنادا.
ه) التوفيق بين الأحاديث المختلفة بحمل بعض الأوامر والنواهي على الاختيار.
و) التوفيق بين الأحاديث المختلفة بكون الفعل فيها يختلف من جهة المباح.
2 - التطبيقات الفقهية لمنهج الشافعي في علم مختلف الحديث :
أ – التوفيق بين الأحاديث المختلفة بجعل بعضها عاما وبعضها خاصا، أو بعضها مطلقا والآخر مقيدا.
وهذا باب عظيم في مجال الاستنباط، احتفى به الشافعي احتفاء بالغا، لا سيما في الرسالة، وأكثر فيه من الأمثلة، نقتصر على بعضها:
منها أن الشافعي ذكر في موضوع طهارة المياه قول الله تعال:ى (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) [11]، وقوله عز وجل: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا)[12]، وقال: "فدل على أن الطهارة بالماء كله". ثم روى عن الثقة عنده عن ابن أبي ذئب عن الثقة عنده عمن حدثه أو عن عبيد الله بن عبد الرحمن العدوي عن أبي سعيد الخذري أن رجلا سأل رسول الله e فقال: إن بئر بضاعة يطرح فيها الكلاب والحيض، فقال النبي e: "إن الماء لا ينجسه شيء"[13].. ثم أخبر عن الثقة من أصحابه[14] عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، قال، قال رسول الله e: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا"[15]. ثم أخبر عن سفيان (بن عيينة) عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله e قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه"[16]. وروى عن سفيان أيضا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله e قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات".. ثم قال: "فبهذه الأحاديث كلها نأخذ، وليس منها واحد يخالف عندنا واحدا". ثم شرع في بيان ذلك فقال: "أما حديث بئر بضاعة فإن بئر بضاعة كثيرة الماء واسعة، كان يطرح فيها من الأنجاس ما لا يغير لها لونا ولا طعما، ولا يظهر له فيها ريح، فقيل للنبي e: نتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يطرح فيها كذا؟! فقال النبي -والله أعلم- مجيبا: "الماء لا ينجسه شيء"؛ وكان جوابه محتملا كل ماء، وإن قل، وبينا أنه في الماء مثلها إذا كان مجيبا عليها، فلما روى أبو هريرة عن النبي أن يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا دل على أن جواب رسول الله في بئر بضاعة عليها، وكان العلم أنه على مثلها وأكثر منها، ولا يدل حديث بئر بضاعة وحده على أن ما دونها من الماء لا ينجس، وكانت آنية الناس صغارا، إنما هي صحون وصحاف ومخاضب الحجارة، وما أشبه ذلك مما يجلب فيه ويشرب ويتوضأ؛ وكبير آنيتهم ما يجلب ويشرب فيه؛ فكان في حديث أبي هريرة عن النبي: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات".. دليل على أن قدر ماء الإناء ينجس بمخالطة النجاسة، وإن لم تُغير له طعما ولا ريحا ولا لونا، ولم يكن فيه بيان أن ما يجاوزه وإن لم يبلغ قدر ماء بئر بضاعة لا ينجس، فكان البيان الذي قامت به الحجة على من علمه في الفرق بين ما ينجس وبين ما لا ينجس من الماء الذي لم يتغير عن حاله وانقطع به الشك في حديث الوليد بن كثير أن النبي e قال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا.."." [17]
فالماء الذي لا يحمل الخبث إلا أن يتغير أحد أوصافه في نظر الشافعي هو ما كان قدره قلتين، والقلة تسع قربتين ونصفا تقريبا. لأن مفهوم قوله e إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا أن ما دون القلتين حمل النجاسة. وهذا موافق لحديث أبي هريرة القاضي بغسل الإناء من شرب الكلب فيه.[18]
بقي على الشافعي توجيه حديث "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه"؛ ومعناه عنده لا يخالف الأحاديث الثلاثة. وعلل ذلك بقوله: "لأنه إذا كان يعني به الماء الدائم الذي يحمل النجاسة فهو مثل حديث الوليد بن كثير وأبي هريرة[19]. وإن كان يعني به كل ماء دائم دلت السنة في حديث الوليد بن كثير وحديث بئر بضاعة على أنه إنما نهى عن البول في كل دائم يشبه أن يكون على الاختيار، لا على أن البول ينجسه، كما ينهى الرجل أن يتغوط على ظهر الطريق والظل والمواضع التي يأوي إليها الناس، لما يتأذى به الناس من ذلك، لا أن الأرض ممنوعة، ولا أن التغوط محرم".[20]
مثال آخر :
ومن أمثلة ذلك أيضا ما رواه الشافعي عن مالك[21] عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع التمر[22] بالثمر كيلا، وبيع الكرم بالزبيب كيلا. وروى عن مالك أيضا[23] عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان أن زيدا أبا عياش أخبره عن سعد بن أبي وقاص: أنه سمع النبي يسأل عن شراء التمر بالرطب؟ فقال النبي : أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك. وروى عن مالك كذلك[24] عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت أن رسول الله رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها..[25]
ووجه الشافعي اختلاف هذه الأحاديث فقال: «..وإذا رخص رسول الله e في بيع العرايا، وهي رطب بتمر، كان نهيه عن الرطب بالتمر والمزابنة عندنا –والله أعلم- من الجمل التي مخرجها عام وهي يراد بها الخاص. والنهي عام على ما عدا العرايا، والعرايا مما لم تدخل في نهيه، لأنه لا ينهى عن أمر يأمر به إلا أن يكون منسوخا، ولا نعلم ذلك منسوخا، والله أعلم..» [26]
ب- التوفيق بين الأحاديث المختلفة باختلاف المقام (الحال) ومراعاة السياق الذي ورد فيه الحديث.
من أمثلة ذلك أن الشافعي روى عن عبد الوهاب (الثقفي) عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل آخر[27] عن عبادة بن الصامت أن رسول الله e قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق ولا البر بالبر ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء، عينا بعين يدا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدا بيد، كيف شئتم»..[28]
وروى عن مالك[29] عن نافع عن أبي سعيد مرفوعا النهي عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق إلا مثلا بالمثل. وروى نحوه عن مالك[30] عن موسى بن أبي تميم عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة مرفوعا. وعن مالك[31] عن حميد بن قيس عن مجاهد عن ابن عمر موقوفا عليه.. وروى نحو حديثهم عن عثمان مرفوعا.
وروى في مقابل هذه الأحاديث حديثا مختلفا معها، وهو قوله e: «إنما الربا في النسيئة»، رواه عن سفيان (بن عيينة) أنه سمع عبيد الله بن أبي يزيد[32] يقول: سمعت ابن عباس
يقول: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي e قال.. وذكر الحديث.[33]
يقول: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي e قال.. وذكر الحديث.[33]
ورأى الشافعي أن حديث أسامة يحتمل خلاف حديث عبادة بن الصامت ومن وافقه، ويحتمل موافقته. وجه الموافقة أن أسامة قد يكون سمع رسول الله e يسأل عن الصنفين المختلفين، مثل الذهب بالورق، والتمر بالحنطة، أو ما اختلف جنسه متفاضلا يدا بيد، فقال: «إنما الربا في النسيئة». أو تكون المسألة سبقته بهذا وأدرك الجواب، فروى الجواب ولم يحفظ المسألة، أو شك فيها...[34]
وعبارته في كتاب اختلاف الحديث: "قد يحتمل أن يكون سمع رسول الله يسأل عن الربا في صنفين مختلفين: ذهب بفضة، وتمر بحنطة فقال: "إنما الربا في النسيئة" فحفظه، فأدى قول النبي ولم يؤد مسألة السائل. فكان ما أدى منه عند من سمعه أن لا ربا إلا في النسيئة".[35]
وخلاصة ما قرره الشافعي أن السياق الذي قيل فيه حديث أسامة يخالف سياق الحديث الذي قيل فيه حديث عبادة ومن معه من الصحابة.
أما وجه المخالفة فلأن ابن عباس ونفرا من أصحابه المكيين أخذوا بحديث أسامة، فكانوا يرون ألا ربا في بيع يدا بيد، إنما الربا في النسيئة.[36]
ورجح الشافعي حديث عبادة ومن وافقه على حديث أسامة، لأن كل واحد ممن روى خلاف حديث أسامة لم يكن دون أسامة في الحفظ والضبط. هذا مع أن عثمان وعبادة أجل من أسامة"، وأبو هريرة أسن وأحفظ من روى الحديث في دهره"[37]، والنفس على حديث الأكثر أطيب.[38]
مثال آخر:
ومن أمثلة ذلك مسألة استقبال القبلة للغائط والبول. فقد أخرج الشافعي عن سفيان (بن عيينة) عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي e قال: "لا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها لغائط أو بول، ولكن شرقوا أو غربوا". قال أبو أيوب: "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد صنعت، فننحرف ونستغفر الله"[39]. ثم روى عن مالك[40] عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: "إن ناسا يقولون: إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس". قال عبد الله (بن عمر): "لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته".[41]
ثم بين الشافعي أن ليس في الحديثين اختلاف: فحال النهي عن استقبال القبلة وعن استدبارها: إذا كان الرجل لا يستره ساتر، كحال أهل الصحراء. وحال عدم النهي: أن يكون الرجل داخل مرحاض في بيته أو غيره. قال الشافعي مفصلا ذلك: "كان القوم عربا، إنما عامة مذاهبهم في الصحاري، وكثير من مذاهبهم لا حش فيها يسترهم، فكان الذاهب لحاجته إذا استقبل القبلة أو استدبرها استقبل المصلي بفرجه أو استدبره؛ ولم يكن عليهم ضرورة في أن يشرقوا أو يغربوا؛ فأمروا بذلك. وكانت البيوت مخالفة للصحراء، فإذا كان بين أظهرها كان من فيه مستترا لا يراه إلا من دخل أو أشرف عليه. وكانت المذاهب بين المنازل متضايقة لا يمكن من التحرف فيها ما يمكن في الصحراء..". [42]
ج : التوفيق بين الأحاديث المختلفة بجعل بعضها ناسخا وبعضها منسوخا:
حدد الشافعي في أواخر مقدمة كتاب اختلاف الحديث طرق النسخ في ثلاث:
الأولى: ثبوت النسخ بالنص عن رسول الله e أو عن بعض الصحابة أو عمن سمع ذلك منهم.
الثانية: الإجماع على أن أحد الحديثين ناسخ والآخر منسوخ.
الثالثة: معرفة المتقدم من المتأخر، فيكون المتقدم منسوخا والمتأخر ناسخا.
ولم يفتأ الشافعي ينبه على أن الأصل الجمع بين الأحاديث المختلفة ما أمكن. ولا يلتجأ إلى القول بالنسخ في الطريق الثالثة إلا عند تعذر الجمع.
من أمثلة ذلك أن الشافعي روى حديث سهل بن سعد[43]: "كان الماء من الماء في أول الإسلام، ثم ترك ذلك بعد، وأمروا بالغسل إذا مس الختان الختان"[44]. وروى عن مالك[45] عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة أم المؤمنين فقال: لقد شق علي اختلاف أصحاب محمد في أمر، إني لأعظم أن أستقبلك به، فقالت: ما هو؟ ما كنت سائلا (عنه) أمك فسلني عنه. فقال لها: الرجل يصيب أهله ثم يكسل، ولا ينزل. فقالت: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل..". وروى نحوه عن عائشة من غير طريق مالك[46].
وبهذين الحديثين حكم على حديث أبي بن كعب الذي رواه عن غير واحد من ثقات أهل العلم عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي أيوب عن أبي بن كعب قال: قلت يا رسول الله، إذا جامع أحدنا فأكسل؟ فقال له النبي e: "ليغسل ما مس المرأة منه وليتوضأ، ثم ليصل" بأنه منسوخ.[47]
مثال آخر :
ومن الأمثلة كذلك ما رواه الشافعي عن مالك[48] عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن النبي e ركب فرسا فصرع عنه فجحش[49] شقه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد، وصلينا وراءه قعودا. فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما صلوا قياما، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله من حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون".[50]
هذا الحديث رآه الشافعي منسوخا بحديث آخر، رواه عن مالك أيضا[51] عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله e خرج في مرضه فأتى أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس، فاستأخر أبو بكر، فأشار إليه رسول الله e أن كما أنت، فجلس رسول الله إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله e، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر[52]. واستدل على ذلك بأن الصلاة المذكورة في الحديث الثاني هي آخر صلاة صلاها رسول الله e بالناس، حتى لقي الله. قال: "وهذا لا يكون إلا ناسخا".[53]
د - الترجيح بين الأحاديث المختلفة بكون بعضها أشبه بكتاب الله أو سنة رسول الله أو القياس، أو أثبت إسنادا:
من أمثلة ذلك أن الشافعي روى عن مالك بن أنس[54] عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة أنها سمعت عائشة – وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي- فقالت عائشة: أما إنه لم يكذب، ولكنه أخطأ أو نسي، إنما مر رسول الله e على يهودية وهي يبكي أهلها عليها، فقال: "إنهم يبكون، وإنها لتعذب في قبرها".
وأخرج الشافعي من طريق أخرى نحو حديث ابن عمر عن أبيه عمر مرفوعا، فقالت عائشة أيضا: يرحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله إن الله يعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله قال: "إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه". وقالت عائشة: "حسبكم
القرآن: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [55]".[56]
القرآن: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [55]".[56]
ورجح الشافعي ما روت عائشة بدلالة الكتاب والسنة، أما الكتاب فكما قالت عائشة، وهو قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى). وكذلك استدل بقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)[57]، وقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) [58]، وقوله تعالى: (لتجزى كل نفس بما تسعى)[59]. وأما السنة فاستدل بقوله e لرجل: ابنك هذا؟ قال: نعم. قال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه"[60]. ثم قال الشافعي: "فأعلم رسول الله e مثل ما أعلم الله من أن جناية كل امرئ عليه، كما عملُه له لا لغيره ولا عليه"[61].
مثال آخر:
ومن أمثلة ذلك أن الشافعي روى عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "كن نساء من المؤمنات يصلين مع النبي[62] وهن متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى أهلهن ما يعرفهن أحد من الغلس". ثم ذكر أن زيد بن ثابت وأنس بن مالك وسهل بن سعد الساعدي رووا عن النبي e ما يوافق حديث عائشة[63]. ثم رجح هذا الحديث على الحديث الذي رواه عن سفيان (بن عيينة) عن محمد بن عجلان عن عاصم بن عمر بن قتادة عن [محمود][64] بن لبيد عن رافع بن خديج أن رسول الله e قال: "أسفروا بالصبح، فإن ذلك أعظم لأجوركم". ثم بين وجه هذا الترجيح بأن حديث عائشة أشبه بكتاب الله، إذ يقول تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)[65].. وبسنة رسول الله إذ يقول e: "أول الوقت رضوان الله"[66]. وسئل رسول الله e عن أفضل الأعمال فقال:" الصلاة في أول
وقتها"[67].. ورجحه أيضا بأن مع عائشة ثلاثة من الصحابة، كلهم يروون عن النبي e مثل معنى حديث عائشة..[68]
وقتها"[67].. ورجحه أيضا بأن مع عائشة ثلاثة من الصحابة، كلهم يروون عن النبي e مثل معنى حديث عائشة..[68]
مثال آخر:
ومن الأمثلة كذلك أن الشافعي روى عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "رأيت النبي e إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع رأسه من الركوع. ولا يرفع بين السجدتين". وروى نحوه عن سفيان أيضا عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر.. ثم قال: "وروى هذا الحديث أبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله e فصدقوه معا"[69]. ثم قال: "وبهذه الأحاديث تركنا ما خالفها من الأحاديث[70]، لأنها أثبت إسنادا منه، وأنها عدد، والعدد أولى بالحفظ من الواحد.."[71].ثم قال: "..وثلاثة عشر حديثا أولى أن تثبت من حديث واحد"[72].
والحديث المخالف هو ما رواه يزيد بن أبي زياد[73] عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب، قال: "رأيت النبي e إذا افتتح الصلاة يرفع يديه"[74].
وقد روى الشافعي هذا الحديث عن سفيان بن عيينة بالسند المذكور[75]. ثم قال: "قال سفيان: ثم قدمت الكوفة فلقيت يزيد بها، فسمعته يحدث بهذا. وزاد فيه: "ثم لم يعد"، وأراهم لقنوه".[76]
هـ: التوفيق بين الأحاديث المختلفة بحمل الأوامر والنواهي على الاختيار :
من أمثلة ذلك أن الشافعي روى عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله e قال: "من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل"[77]، وروى أيضا عن مالك وسفيان عن صفوان بن مسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخذري أن رسول الله e قال: " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم"[78]. ورجح أن يكون الوجوب الوارد في الحديث في الأخلاق وفي الاختيار "وفي النظافة ونفي تغير الريح عند اجتماع الناس، كما يقول الرجل للرجل: وجب حقك علي إذ رأيتني موضعا لحاجتك. وما أشبه هذا". والذي رجح هذا عنده دلالتان: الأولى ظاهر قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية[79] الوارد "في عموم الوضوء من الأحداث وخصوص الغسل من الجنابة". والدلالة الثانية ما رواه الشافعي عن مالك[80] عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أنه قال: دخل رجل[81] من أصحاب رسول الله e المسجد يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب فقال عمر : أية ساعة هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، انقلبت من السوق، فسمعت النداء. فما زدت على أن توضأت. فقال عمر: "والوضوء أيضا؟ وقد علمت أن رسول الله e كان يأمر بالغسل"[82]. قال الشافعي بعد إخراج هذا الحديث: "فلما علمنا أن عمر وعثمان علما أن رسول الله كان يأمر بالغسل يوم الجمعة، فذكر عمر علمه وعلم عثمان، فذهب عنا أن نتوهم أن يكونا نسيا علمهما عن رسول
الله في غسل يوم الجمعة، إذ ذكر عمر علمهما في المقام الذي توضأ فيه عثمان يوم الجمعة، ولم يغتسل، ولم يخرج عثمان فيغتسل ولم يأمره عمر بذلك، ولا أحد ممن حضرهما من أصحاب رسول الله ممن علم أمر رسول الله بالغسل معهما أو بإخبار عمر عنه: دل هذا على أن عمر وعثمان قد علما أمر النبي بالغسل على الأحب لا على الإيجاب للغسل الذي لا يجزئ غيره.." [83].
الله في غسل يوم الجمعة، إذ ذكر عمر علمهما في المقام الذي توضأ فيه عثمان يوم الجمعة، ولم يغتسل، ولم يخرج عثمان فيغتسل ولم يأمره عمر بذلك، ولا أحد ممن حضرهما من أصحاب رسول الله ممن علم أمر رسول الله بالغسل معهما أو بإخبار عمر عنه: دل هذا على أن عمر وعثمان قد علما أمر النبي بالغسل على الأحب لا على الإيجاب للغسل الذي لا يجزئ غيره.." [83].
وقوى الشافعي هذا التأويل بما رواه عن سفيان بن عيينة [عن][84] يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: "كان الناس عمال أنفسهم، فكانوا يروحون بهيآتهم. فقيل لهم: لو اغتسلتم"[85]. وذكر دون سند قول رسول الله e: "من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل"..[86]
و : التوفيق بين الأحاديث المختلفة بكون الفعل فيها يختلف من جهة المباح :
قد يجمع الشافعي بين الأحاديث المختلفة بأنها للتوسعة على المكلف بأن يختار العمل بمضمون واحد منها، فالاختلاف فيها من باب اختلاف المباح.
والحق أن التوفيق على هذا الوجه يزيل كثيرا من الخلاف الواقع بين الفقهاء في كثير من الفروع، لاسيما تلك المتعلقة بالعبادات، كدعاء الاستفتاح وعدمه، وجلسة الاستراحة وعدمها، والاختلاف في ألفاظ التشهد، وقراءة البسملة جهرا أو سرا أو تركها..
ولأهمية هذا الوجه أفرد له الشافعي أول باب من كتابه "اختلاف الحديث" سماه "باب الاختلاف من جهة المباح"، وذكر بعده نماذج من الأحاديث المختلفة، التي يختلف الفعل فيها "من وجه أنه مباح، لا اختلاف الحلال والحرام، والأمر والنهي"[89]. ومن بين الأمثلة التي ذكرها، ما صح عنه e من أنه توضأ ثلاثا ثلاثا، وتوضأ مرتين مرتين، وتوضأ مرة مرة، والكل جائز. فأقل "ما يجزئ من الوضوء مرة، وأكمل ما يكون من الوضوء ثلاثا".[90]
هذا وهناك أوجه أخرى للتوفيق بين الأحاديث لم يذكرها الشافعي مستقلة، تستفاد من الأمثلة التي ذكرها في كتاب اختلاف الحديث وغيره. ولكن القارئ المتخصص لا يعسر عليه أن يلحق كلا منها بأحد الوجوه المذكورة.
منها أنه إذا اتفق ووجد الشافعي حديثين مختلفين ضعيفي الإسناد عنده، فإنه قد يضطر إلى ترجيح أحدهما بمرجحات خارجية، كأن يأتي معنى أحد الحديثين من طريق آخر، أو أن يكون مضمونه موافقا لعمل الصحابة[91]..
ومنها الترجيح بزيادة الثقة. وهو أن يأتي الراوي الثقة في حديثه بزيادة ليست في حديث غيره، فيثبت الشافعي هذه الزيادة ويعتبرها عند الاحتجاج، لأن هذا الثقة له علم زائد على غيره. والذي علم حجة على من لم يعلم.[93]
الخاتمة : نتائج وملاحظات
بعد هذا البيان المختصر لمنهج الشافعي في علم مختلف الحديث، يمكننا أن نسجل الملاحظات والنتائج التالية:
1) الشيء اللافت للانتباه في إنتاج الشافعي الأصولي أنه كان مهتما بأمرين أساسيين:
الأمر الأول: تضييق مساحة الخلاف بين الفقهاء؛ فقد كان يخيفه أن يرى في الإسلام مذاهب فقهية تعد بالعشرات، وكان يزعجه أن يجد كل فرقة تنافح عن آراء إمامها بدليل وبغير دليل.
الأمر الثاني: ضبط مناهج الاستنباط. فلقد كان كل فقيه في عهده يلتزم طريقة بلده في الفقه، عليها يسير، وبها يناظر. بل وجد في عهده من الطوائف –لاسيما في العراق- من ينكر السنة جملة وتفصيلا، ويقول: حسبنا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، فالله سبحانه ما فرط في الكتاب من شيء. ووجد من الطوائف من تطرح السنة لا بالاعتبار الأول ولكن من جهة أن معظمها وصلنا بطريق الآحاد الذي لا يغني من الحق شيئا.
وهذا الذي قررته تجد الدليل عليه عند مطالعة كتاب "الرسالة"، والجزء السابع من "الأم" وكتاب اختلاف الحديث في الجزء الثامن من "الأم" أيضا.
ولتحقيق هذين الأمرين-أعني تضييق مساحة الخلاف بين الفقهاء وضبط منهج الاستنباط- لم ير الشافعي محيدا عن وضع منهج أصولي منضبط مطرد يلتزمه الفقهاء، وقواعد عامة للاستنباط يحتكم إليها النظراء..
ولقد توسل لذلك بأن قرر أن الشرع إما نص أو حمل على النص، ولا التفات إلى غير ذلك من الأقيسة المرسلة، أو الاستحسان، أو العرف، أو عمل أهل البلد.. بل إنه حرص على أن يضع شروطا عامة لقبول الأخبار، إذا توفرت في الحديث نال درجة القبول وصار حجة كالقرآن، قوي بنفسه، مقدم على غيره، يطبق في كل أوان، وعلى كل حال. وأكثر من الاستدلال لذلك. وناظر فيه مخالفيه، وتباحث مع متبعيه ومريديه. وبهذا لقب بـ"ناصر السنة".
2) لقد نجح الشافعي فيما سعى إليه إلى حد كبير.. وحسبنا أن نعلم أن منهج الشافعي في علم مختلف الحديث على النحو الذي قدمناه هو المثال الذي احتذاه علماء الحديث والأصول على السواء من بعده. مما حدا بعض الباحثين المعاصرين إلى أن يخرج بحثا بعنوان "المنهج الإسلامي في علم مختلف الحديث: منهج الإمام الشافعي"، إذ وجد بعد البحث والاستقصاء أن منهج الشافعي في هذا العلم، هو نفسه عند علماء الإسلام..[94]
وحسبنا أن نعلم كذلك أن الشروط التي أصبح العلماء يشترطونها في قبول الأخبار هي الشروط التي قررها الشافعي؛ وإن كان هؤلاء العلماء ليسوا كلهم يستنبطون من هذه الأخبار على طريقة الشافعي. وحسنا كان الحال، فإن طريقة الشافعي في الاستنباط من الحديث عليها ملاحظات ليس هذا محل بسطها؛ ويكفينا أن نتذكر في هذا المقام أن هذه الطريقة كانت هي المقدمة الطبيعية لمنهج الظاهرية. وهي الطريقة التي يتبعها اليوم من ينعتون بـ "الظاهرية الجدد".
3) كان الشافعي يرى أن الأحاديث إذا صحت وسلم بعضها من احتمال النسخ فإنها متفقة غير مختلفة، بل إنه كان لا يلتجئ إلى النسخ غير المصرح به، إلا إذا تعذر الجمع من كل وجه، وأمكن معرفة المتقدم والمتأخر من الأخبار.
إلا أنه كان يخطئ هذا المنهج السليم في بعض الأحيان؛ كما وقع له في الأحاديث الواردة في التيمم: فلقد أسقط حديث عمار القاضي بالاكتفاء بالتيمم على الوجه والكفين، وأخذ بحديث ابن الصمة القاضي بالتيمم على الوجه والذراعين.[95]
وأسعدُ الناس بهذه الأحاديث مجتمعة غير مختلفة الإمام مالك الذي يرى أن الضربة الواحدة للوجه والكفين هو الواجب، والكمال أن يضرب المتيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين ويمسحهما إلى المرفقين.
4) إن الشافعي، بضبطه أوجه التوفيق بين الأحاديث المختلفة، سد بابا كان بإمكان المشككين اليوم ممن ينتسبون للإسلام، ومن غيرهم من المستشرقين ومن قلدهم أن يلجوا منه للطعن في السنة النبوية[96]. بل إنه بضبطه القواعد التي على أساسها يفهم كتاب الله، وبما قدم من الأدلة إثبات حجية خبر الآحاد سد الطريق على من أراد النصوص الشرعية اليوم سيبا مباحا لكل من هب ودب: يفهمها كيف يشاء، ويأخذ منها ما يشاء، ويدع ما يشاء.
وبهذا ينقضي عجب من يرى أن سهام النقد وألفاظ الجرح من أعداء التراث الإسلامي عموما وقواعد تفسير النصوص خصوصا تتجه شطر الإمام الشافعي دون غيره من الأئمة الأربعة. ذلك لأنه بما أصل من أصول وقعد من قواعد -ومنها القواعد المقررة للتوفيق بين الأحاديث المختلفة- قطع الطريق كما قلت على هؤلاء.
5) الملاحظ أن هناك صنيعا يكاد يكون مطردا في منهج الشافعي في ترجيح خبر على خبر: وهو أنه يرجح الحديث بمرجح يعتبره هو الأساس، وهو الفصل؛ ثم يعضده بمرجحات أخرى إن وجد إلى ذلك سبيلا. وغالبا ما يعضد الحديث بكونه أشبه بكتاب الله أو السنة أو القياس[97].
والملاحظ كذلك أن الشافعي عندما يرجح حديثا على حديث يعود أحيانا فيشير إلى احتمال الجمع بينهما بوجه من الوجوه[98].
وهذا يدلك على أن الشافعي ملك ناصية قواعد الاستنباط ملكا مكنه من أن يقول في بعض ما كتب: "قل ما اختلفوا فيه إلا وجدنا فيه عندنا دلالة من كتاب الله أو سنة رسوله، أو قياسا عليهما أو على واحد منهما".[99]
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
د . الناجي لمين
أستاذ بدار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا- الرباط.
فهرس المصادر والمراجع
- الأم، للإمام الشافعي، دار الفكر، ط: 1410هـ/1990م.
- بلوغ المرام من أدلة الأحكام، لابن حجر، باعتناء محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية.
- الرسالة، للإمام الشافعي، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر، دار الفكر 1309هـ.
- السنن الكبرى للبيهقي، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى.
- صحيح البخاري، تحقيق محمد علي القطب، المكتبة العصرية، ط 1411هـ/1991م.
- صحيح مسلم، باعتناء محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث مصر. ط1/1412هـ/1991م.
- الطبقات الكبرى، لابن سعد، دار الفكر، ط1/1414هـ/1994م.
- المبسوط، للسرخسي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط3: 1398هـ/1978م.
- مجلة الواضحة، العدد 3/1426هـ 2005م، بحث "ما بين مالك والشافعي: دراسة في موقف التلميذ من الشيخ، وفي أهم الفروق الأصولية بينهما للباحث".
- مجلة دار الحديث الحسنية، العدد 15، 1998م (بحث اختلاف الحديث للإمام الشافعي ومنهجه في درء التعارض، للأستاذ حسن القصاب).
- معرفة السنن والآثار عن الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، للبيهقي، تحقيق سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، ط1/1412هـ/1991م.
- المنهج الإسلامي في علم مختلف الحديث، منهج الإمام الشافعي، للأستاذ عبد اللطيف السيد علي سالم، دار الدعوة (مصر) ط: 1/1412هـ/1992م.
- الموطأ، للإمام مالك، باعتناء محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث (مصر).
[3] - وهذا على خلاف ما قرره الأستاذ عبد اللطيف السيد علي سالم في كتابه "المنهج الإسلامي في علم مختلف الحديث" من أن منهج الشافعي في علم مختلف الحديث يستفاد من تطبيقاته الفقهية. انظر مثلا ص 58.
[7] - هكذا في الأصل.
[13] - الحديث صححه أحمد كما قال ابن حجر في بلوغ المرام ص2. وانظر طرقه في معرفة السنن والآثار
للبيهقي: 1/321-324 والسنن الكبرى له: 1/258.
للبيهقي: 1/321-324 والسنن الكبرى له: 1/258.
[14] - قال البيهقي: "هذا الثقة أبو أسامة حماد بن أسامة الكوفي، فإن الحديث مشهور به، وقد رأيت في بعض الكتب ما دل على أن الشافعي أخذه عن بعض أصحابه عن أبي أسامة. وقد رواه جماعة عن أبي أسامة هكذا". معرفة
السنن: 1/326.
السنن: 1/326.
[15] - الحديث صححه ابن خزيمة، والحاكم وابن حبان. ينظر بلوغ المرام ص 3. وأعله ابن القيم في تهذيب السنن. انظره بهامش مختصر أبي داود للمنذري، ومعالم السنن للخطابي 1/62 وما بعدها.
[16] - الحديث رواه البخاري في صحيحه كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم (ح239)، ومسلم في كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد (ح282).
[19] - أي أن المقصود من الحديث الماء القليل الذي لا يصل خمس قرب (قلتين).
[27] - قال البيهقي: «الرجل الآخر، يقال: هو عبد الله بن عبيد، قاله سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين عنهما..» ينظر معرفة السنن والآثار: 4/288-289.
[28] - كتاب اختلاف الحديث في الأم: 8/642، وينظر الحديث في مسلم كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا (ح1587)
[30] - السابق.
[31] - السابق.
[32] - وهو ثقة. وقد روى عنه سفيان بواسطة ابن جريج، ثم لقيه، ولم يزل يختلف إليه حتى مات. ينظر طبقات ابن سعد: 4/242 في ترجمة عبيد الله بن أبي يزيد، رقم 1570.
[33] - ينظر الرسالة ص 278 ف 763، وحرف "عبيد الله" إلى "عبد الله" في كتاب اختلاف الحديث في الأم: 8/642. (ط دار الفكر).
[41] - الرسالة ص 292-293 ف 812، وكتاب اختلاف الحديث في الأم: 8/649، وهو صحيح كما ترى. وهو في الصحيحين.
[43] - رواه عن الثقة عنده عن يونس عن الزهري عن سهل بن سعد. قال بعضهم عن أبي بن كعب، ووقفه بعضهم على سهل بن سعد. ينظر كتاب اختلاف الحديث في الأم: 8/607.
[47] - السابق. وينظر الحديث في صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء (ح343-347) وصحيح البخاري، كتاب الغسل، باب غسل ما يصيب من فرج المرأة (ح292).
[49] - جُحِش بضم الجيم وكسر الحاء المهملة أي خدش. وقيل الجحش فوق الخدش.
[50] - الرسالة ص 251 ف 696، وكتاب اختلاف الحديث في الأم: 8/609. وروى نحوه أيضا عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة (الرسالة ص 252). وأشار في كتاب اختلاف الحديث إلى أنه مروي عن أبي هريرة أيضا.
[52] - الرسالة ص 252، ف 699. والحديث مرسل كما ترى. وقد أسنده الشافعي من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. ينظر كتاب اختلاف الحديث في الأم 8/609. ووصله البخاري ومسلم. ينظر صحيح البخاري في كتاب الأذان، باب من قام إلى جنب الإمام لعلة، وصحيح مسلم في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر..
[54] - ينظر الموطأ 1/234، كتاب الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت، والحديث في صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي e «يعذب الميت ببكاء أهله عليه»، وصحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه.
[56] - كتاب اختلاف الحديث في الأم 8/648-649. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز باب قول النبي e «يعذب الميت ...»ومسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وينظر معه شرح النووي.
[62] - يعني: الصبح.
[63] - كتاب اختلاف الحديث في الأم 8/633. وينظر معرفة السنن والآثار: 1/468-469 والسنن الكبرى 1/455-456
[64] - في الأصل المنقول منه «محمد»، والتصويب من معرفة السنن والآثار.
[73] - يزيد ليس بالحافظ المتقن، وكان يلقن في آخر عمره. ينظر تهذيب التهذيب 4/413. وهو من الطبقة الثانية عند مسلم، فإن مسلما ذكر طائفة من هذه الطبقة، وذكره منهم، وقال: "فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم..". ينظر مقدمة صحيح مسلم 1/5.
[77] - الحديث كما ترى صحيح، وأخرجه مالك في الموطأ 1/102، من طريق نافع، كتاب الجمعة، باب العمل في غسل يوم الجمعة، وهو أيضا في صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، ومسلم في أول كتاب الجمعة.
[78] - ينظر الموطأ 1/102، وهو في البخاري، كتاب الأذان، باب وضوء الصبيان.. ومسلم في كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة..
[81] - وهو عثمان رضي الله عنه، كما في بعض روايات هذا الحديث، وكما هو ظاهر من كلام الشافعي الذي سيأتي.
[82] - قال البيهقي: "هذا حديث قد أرسله مالك في الموطأ. ووصله خارج الموطأ، فذكر ابن عمر فيه". ثم ذكر البيهقي سنده إلى مالك في هذا الحديث الموصول. معرفة السنن والآثار: 1/354-355. والحديث وصله أيضا البخاري في كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، ومسلم في صحيحه في الحديث الثالث من كتاب الجمعة.
[84] - في الأصل المنقول منه "بن".
[86] - الحديث ذكر البيهقي في معرفة السنن 1/356 أنه مروي عن أنس. وأخرجه في السنن الكبرى 1/269. وأورده ابن حجر في بلوغ المرام عن سمرة بن جندب وقال: "رواه الخمسة وحسنه الترمذي". ينظر بلوغ المرام ص 23.
[87] - كان ابن أبي ليلى يقول: يتخير الإمام في التسمية بين الجهر والمخافتة. قال السرخسي: وهذا مذهبه في كل ما اختلف فيه الأثر، كرفع اليدين عند الركوع، وتكبيرات العيد، ونحوها. المبسوط 1/17.
[97] - ينظر مثلا كتاب اختلاف الحديث في الأم: 8/639 باب من أصبح جنبا في شهر رمضان، و 8/636، باب صلاة المنفرد، و8/640-641، باب الحجامة للصائم.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar